عيد الظهور الإلهى -الغطاس- وأهميته
بقلم: القمص أفرايم الأنبا بيشوى (ألأورشليمى)
أهنئكم أحبائى بعيد الظهور الإلهي راجياً لكم حياة مقدسة مثمرة فى الرب. إننا إذ نحتفل بعيد (الأبيفانيا) Epiphany (إيبيفاني) أو عيد الغطاس المجيد، فإننا نتذكر الرب فى تجسده وعماده ليقدِّس ويكرِّس لنا الطريق إلى البنوة الحقيقية لله والولادة من الماء والروح ونتذكر معموديتنا يوم تعهدنا أن نجحد الشيطان ولا نسير فى طرقه وأن نعلن إيماننا المسيحى ونحيا أوفياء لعهد تبنى الله لنا فى قداسة وبر وتقوى.
تعمد السيد المسيح القدوس من القديس يوحنا المعمدان بالتغطيس (وللوقت وهو صاعد من الماء) ولذلك نسمى المعمودية “الغطاس”. ليؤسس لمعموديتنا نحن المؤمنين به، ففيما نال هو المسحة بالمعمودية أعطانا من خلالها الولادة من الماء والروح. لذلك يوحنا المعمدان قال للناس: “هوذا حمل الله الذى يحمل خطية العالم كله” (يو1:26). وشهد عنه قائلاً: “إنى قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقرعليه، وأنا لم أكن أعرفه. لكن الذى أرسلنى لأعمد قال لى: الذى ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذى يعمد بالروح القدس. وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (يو 1: 33 – 34).
** وهنا ربط بين معمودية السيد المسيح وحلول الروح القدس عليه وأنه يعمد بالروح القدس. معنى هذا أن الروح القدس حل على السيد المسيح كبداية للعهد الجديد لكى يحل على المؤمنين عبر الولادة من الماء والروح ومن خلال مسحة الميرون المقدس.
لهذا تحتفل الكنيسة بعيد الغطاس المجيد لما فيه من أحداث هامة وإعلانات إلهية تخص خلاصنا. ولعل أول كل هذا ظهورالله المثلث الأقانيم وقت عماد السيد المسيح.. لذلك يطلق علي هذا العيد (عيد الظهور الإلهي).. فالاب ينادي قائلاً عن الرب يسوع وهو في الماء “هذا هو أبني الحبيب الذي به سررت” (مت 3:17)، بينما الروح يحل في شكل حمامة مستقراً علي السيد المسيح ليعلن أنه المخلص الذي أتي لخلاص العالم ليصنع الفداء العجيب. ويقول في ذلك القديس أغسطينوس: (بجوار نهر الأردن ننظر ونتأمل المنظر الإلهي الموضوع أمامنا.. فلقد أعلن لنا إلهنا نفسه عن نفسه بكونه ثالوث في واحد.. أي ثلاثة أقانيم في طبيعة إلهية واحدة).
معمودية السيد المسيح ومعموديتنا:
** الرب يسوع المسيح لم تكن ولادته من الماء والروح لأنه الابن الوحيد للاب بالطبيعة، فلم يكن نزوله فى المعمودية لكى يولد من الماء والروح لكنه كان نازلاً من أجل أن يستعلن أنه المسيح الرب ويبدأ خدمته العامة لذلك سُمى بالمسيح، يسوع اسم الولادة والمسيح هذا اسم المسحة فى المعمودية، وبينما الرب يسوع يقف في إتضاع عجيب أمام يوحنا المعمدان في نهر الأردن ليعتمد منه.. أعلن الله ليوحنا عن الذي سيعمده إذ هو الابن الكلمة المتجسد . فشهد يوحنا المعمدان قائلاً: “أنا أعمدكم بماء ولكن في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه، هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي لست مستحق أن أحل سيور حذائه.. هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدامي لأنه كان قبلي وأنا لم أكن أعرفه لكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء.. إني قد رأيت الروح نازلاً مثل حمامة من السماء فاستقر عليه وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي تري الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو أبن الله” (يو 1: 26 – 34). بهذه الشهادة التي قدمها القديس يوحنا المعمدان يكون قد أعلن عن المخلص الحقيقي الذي استعلن وسط البشر في الماء ليحمل خطايا العالم.. وكأن من نزل في الماء قد ترك خطاياه واغتسل منها.. بينما إذ نزل الابن الكلمة المتجسد في الماء وهو بلا خطية قد احتمل كل خطايا البشر.. هذا هو سر الخلاص المعلن في نهر الاردن.
يقول القديس اثناسيوس الرسولى عن معمودية السيد المسيح ومعموديتنا نحن وحلول الروح القدس عليه “أن نزول الروح علي السيد المسيح في الأردن، إنما كان نزولاً علينا نحن بسبب لبسه جسدنا. وهذا لم يصر من أجل ترقية اللوغوس، بل من أجل تقديسنا من جديد، ولكي نشترك في مسحته، ولكي يُقال عنا “ألستم تعلمون إنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم ” (1كو16: 3).
** فحينما اغتسل الرب في الأردن كإنسان، كنا نحن الذين نغتسل فيه وبواسطته. وحينما اقتبل الروح، كنا نحن الذين صرنا مقتبلين للروح بواسطته. ولهذا السبب، فهو ليس كهارون أو داود أو الباقين قد مُسح بالزيت هكذا بل بطريقة مغايرة لجميع الذين هم شركاؤه أي “بزيت الابتهاج” الذي فسر أنه يعني الروح قائلاً بالنبي: “روح الرب علىَّ لأنه مسحني” (إش1: 61)، كما قال الرسول أيضًا: “كيف مسحه الله بالروح القدس” (أع38: 10).
** متى قيلت عنه هذه الأشياء إلاّ عندما صار في الجسد واعتمد في الأردن، “ونزل عليه الروح” (مت16: 3).
** وحقًا يقول الرب لتلاميذه إن “الروح سيأخذ مما لي” (يو14: 16)، و “أنا أرسله” (يو7: 16)، و”اقبلوا الروح القدس” (يو22: 20). إلاّ أنه في الواقع، هذا الذي يُعطى للآخرين ككلمة وبهاء الآب يُقال الآن إنه يتقدس وهذا من حيث إنه قد صار إنسانًا، والذي يتقدس هو جسده ذاته. إذاً فمن ذلك (الجسد) قد بدأنا نحن الحصول على المسحة والختم، مثلما يقول يوحنا “أنتم لكم مسحة من القدوس” (1يو20: 2). والرسول يقول “ختمتم بروح الموعد القدوس”(أف13: 1).
** ومن ثمَّ فهذه الأقوال هي بسببنا ومن أجلنا (القديس أثناسيوس الرسولى عن العماد) لقد اعتمد السيد ليعلن لنا أنه الطبيب الحقيقي الذي جاء ليرفع خطايا البشر.. لم يقف في الماء لكي يقر بخطيئته كما فعل باقي الناس الذين اعتمدوا من يوحنا.. فهو بلا خطية.. لهذا ذهل يوحنا حينما أعلن له عن ما هو الواقف أمامه ليعتمد.. لذلك قال له: “أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إلي” (مت 3: 14) لقد حاول أن يمنعه من العماد لأنه بلا خطية.. فلماذا يعتمد؟! فأجاب الرب علي يوحنا قائلاً: “اسمح الان لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر. حينئذ سمح له” (مت3: 15).
العماد في نهر الأردن:
** في قصة عبور بني إسرائيل ليدخلوا أرض الموعد قديماً بقيادة يشوع ابن نون وفي نهر الأردن (يش20: 7 – 17) لما وضعوا تابوت العهد فى الماء انشق النهر فعبروا فيه وانتخبوا 12 رجل من أسباط إسرائيل، رجل من كل سبط وأخذوا حجارة ومروا عليها حتى عبروا نهر الأردن. قصة العبور كانت رمزاً لعبورنا من خلال الرب المتجسد السماء أرض الموعد الحقيقية لذلك انفتحت السماء حين نزل الرب فى الماء كما انفتح النهر بحلول تابوت العهد فيه توافق فى الرمز والمرموز إليه. من هنا أخذت المعمودية أهمية خاصة لأنها عبور إلى أرض الموعد الحقيقية التي هي السماء. حلول الروح القدس على السيد المسيح هو حلول لأجل عمل الخلاص، الإبن الكلمة والروح القدس كلاهما أقنومين فى الثالوث القدوس. هذه الحادثة تؤكد أهمية هذا الرمز لما حدث في عماد الرب يسوع علي يد القديس يوحنا المعمدان لأن الرب جاء لكي يوصلنا إلي أرض الموعد الحقيقية وهي السماء.. لذلك كما كان نهر الأردن الوسيلة التي من خلالها وصل بني إسرائيل الي أرض الموعد هكذا تحقق الرمز في عماد الرب في نهر الأردن ليكون الوسيلة للوصول إلي السماء.. وهكذا نفس الأمر إذ بمجرد نزول الرب الي نهر الأردن انفتحت السماء ونزل الروح القدس علي هيئة جسمية في شكل حمامة واستقر علي رأس الرب يسوع كأول إنسان يستقر فيه الروح القدس منذ غادر البشر كما جاء فيه (تك: 3) “فقال الرب لا يدين روحي في الانسان إلي الأبد لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مائة وعشرين سنة”.. أي لا يدوم روحي في البشر.. ولتوضيح هذا المعني أريد أن لا نخلط بين السيد المسيح والروح القدس لاهوتياً (إذ هما أقنومان في الذات الإلهية الواحدة) وبين حلول القدس علي السيد المسيح ناسوتياً. ولقد سبق الوحي الإلهي وتنبأ عن ذلك قائلاً: “روح السيد الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالاطلاق لأنادي بسنة مقبولة للرب” (أش61: 1، 2)
** إن الابن الكلمة والروح القدس كلاهما أقنومين فى الثالوث ولذلك هذا هو الوضع اللاهوتى، (مز45: 6،7) “كرسيك يا الله إلى دهر الدهور قضيب الإستقامة قضيب ملكك”. هذا الجزء الأول الخاص باللاهوت هذا عن الابن ووضحها القديس بولس الرسول عن الابن: “أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بزيت الإبتهاج أفضل من رفقائك” هذا الجزء خاص بالوضع الناسوتى وهو نفسه كرسيه إلى دهر الدهور هو نفسه الذى مُسح بزيت الإبتهاج. هذا هو الهدف من المعمودية أن يحل الروح القدس على السيد المسيح ناسوتياً. الملوك يمسحون بزيت قرن المسحة ولكن فى السيد المسيح حل الروح القدس عليه معطيه كمال المسحة المقدسة.
ثمار المعمودية والولادة من الماء والروح:
** المعمودية ولادة من فوق من الماء والروح وبها نصير أبناء وبنات لله بالتبنى والنعمة وتغفر لنا خطايانا ونؤهل للدخول للسماء “أجاب يسوع الحق الحق اقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو و المولود من الروح هو روح” (يو 5:3-6).
** وكما يقول الإنجيل: “بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس” وبها نلبس الرب يسوع “لأن كلكم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح” (غل3: 27). وننال التطهير الكامل والبر والقداسة (ف 3: 25). لكى يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكى يحضرها كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن ولا شيئاً من مثل ذلك بل تكون مقدسة وبلا عيب وبالمعمودية ندفن مع المسيح ونقوم “كل من اعتمد ليسوع المسيح قد اعتمد لموته” (رو6: 3، 4).
** لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته فإن كنا قد متنا مع المسيح عن الخطية وشهوات العالم وقدمنا توبة عن أثامنا وخطايانا ننمو فى القداسة ونثمر ثمر الروح ونرث ملكوت السموات.
** لهذا يحثنا القديس اغريغوريوس النزينزى أن نحتفل بهذا العيد بالتوبة والقداسة “فلنكرم اليوم معمودية المسيح، ولنعيد عيدًا سعيدًا يفرحنا روحيًا بدلاً من أن نهتم بمعدتنا وشهواتنا. ما هي طريقة فرحنا؟ اغتسلوا حتى تتنقوا. إذا كنتم قرمزيين من الخطيئة فصيروا بيضًا كالثلج بالاغتسال والتوبة. حاولوا أن تتنقوا لأن الله لايفرحه شئ بقدر ما تفرحه النقاوة وخلاص الإنسان الذي تجسد من أجله، ومن أجله كُتبت كل الكتب، وأعطيت كل الأسرار لكي يصبح (الإنسان) كوكبًا مشعًا بالضياء للعالم المنظور وأمام الملائكة، وقوة محيية للآخرين، ولكي تتقدموا أنتم كأنوار أمام الله النور الأعظم، وأن تدخلوا إلى مساكن النور).