** السؤال:
من أين أتت الوثنية علي الرغم من أن الإنسان كان في الأصل يعرف الله؟ و كيف تطورت الوثنية و تشكلت؟
** الجواب: لقداسة البابا شنودة الثالث
كان الإنسان منذ خلقه يعرف الله. و لكن بعدما تفرقت الشعوب في الأرض، بعد برج بابل و تبلبلت الألسنة، بمضي الوقت نسوا الله، أو بعدوا عنه ببعدهم عن التقليد السليم.
ولما كان الله غير منظور لهم، بدأوا يتخيلونه في قوي أخرى منظورة.
إما في قوي هي مصدر الخير لهم، مثل الشمس مصدر النور و الحرارة، في علوها و جمالها و إشراقها… أو مثل النهر، الذي يعطيهم الماء مصدر الحياة أو الري للإنسان و الحيوان و النبات… أو صاروا يعبدون ملوكهم، مظهر القوة والعظمة والسيطرة والإرادة أمامهم، الذين كانوا يستطيعون أن يحكموا عليهم بالموت، أو يبقوهم في الحياة، أو يمنحوهم من خيرات الدولة و مناصبها. و صاروا أيضاً يعبدون كائنات يخافونها، و يقدمون لها القرابين استرضاء لها حتى لا تؤذيهم، مثل النار، أو الحية، أو بعض الوحوش، أو الأرواح، و ما إلي ذلك…
وبعضهم كان يتخيل لكل معني هام إلهاً…
فمثلاً هناك إله للجمال، و إله للخصب… و يعطون لكل من هذه الآلهة إسماً، و يحيكون حوله أسطورة يتداولها الناس،و تصبح جزءاً من عقيدتهم يسلمها جيل إلي جيل…
ولكي يثبت الأمر في حسهم، يتخيلون لهذا الإله صورة، و ينحتون له تمثالاً.
ثم يقيمون له شعائر للعبادة تتفق مع الأسطورة الخاصة به. أما ما يختص بهذه الشعائر من مذابح و ذبائح، ومن صلاة وسجود، ومن بخور وتسبيح وترتيل، فكلها أمور تعلَّموها في جوهرها من فترة ما قبل التشتت و التفرق، مما كان يقدم للإله الحقيقي وحده من عبادة قبل الطوفان و بعده…
وهم في الواقع لم يعبدوا التماثيل كأحجار، و إنما لأنها تمثل اَلهة…
وهذه الآلهة الوثنية، ما كانوا فيها يعبدون الحيوان أو الإنسان كحيوان أو إنسان، ولكن لأنه مثال للإله الذي في ذهنهم بما حوله من أساطير…
وتمثال الإله الذي تقدم له العبادة يسمي وثناً.
فليس كل تمثال من تماثيل القدماء كان وثناً. إنما الوثن هو التمثال الذي كان يعبد. وبعض هذه الأوثان كانت ضخمة تقام في المعابد. بينما بعضها كان صغيراً يحتفظ به الناس في بيوتهم، ويأخذونها معهم في أسفارهم. والآلهة (بوتو) أي الحية كان يضعها الفراعنة في تيجانهم كجزء من التاج…
وفي تلك الأساطير تخيلوا آلهتهم، ولهم قصص عائلية كما للبشر.
فمثلاً الإله أوزوريس تزوج الإلهة إيزيس،وأنجب منها إبنهما الإله حورس. وتخيلوا أيضاً قصص صراعات و حروب تدور بين هذه الآلهة. والبعض منهم يموت، ثم يوجد من ينتقم له. وهذه الآلهة يوجد منها إله خير وآخر شرير… لقد اسبغوا علي آلهتهم صوراً من الحياة البشرية التي يحيونها أو يرونها…
وقصص الآلهة كانت تعبر أحياناً من بلد إلي آخر، وتأخذ أسماء أخري.
وهذه الحركة في التاريخ يسمونها Cencretism . فمثلاً قصة الإله أوزوريس تعبر من مصر إلي بلاد اليونان، ليأخذ هذا الإله إسم ديونسيوس، في قصة شبيهة. وهذا الأمر له قصص تكاد تتشابه بين اَلهة الهند والصين وبلاد الشرق الأقصى…
إننا نؤمن بإله واحد له كل صفات المثالية.
أما العالم الوثني فتصور لكل صفة إلهية إلهاً.
وهكذا عندهم تعدد الآلهة، بحيث يمثل كل إله صفة من صفات الإلوهية، أو عملاً من أعمالها.. وفي التاريخ المصري القديم حاول أخناتون أن ينشر عقيدة التوحيد، داخل نطاق عبادة الشمس، ولكنه لم ينجح طويلاً، وعادت الآلهة يسيطر علي معتقدات الناس.
وطبعاً هناك فرق كبير بين الوثنية والإلحاد.
فالإلحاد معناه عدم الإيمان بوجود إله علي الإطلاق، كما يقول الوحي الإلهي في سفر المزامير “قال الجاهل في قلبه ليس إله” (مز 14 : 1). أما الوثنيون فكانوا يؤمنون بفكرة الألوهية ويعبدون إلهاً، أو عدداً من الآلهة، أو أسرة إلهية، أو عدداً من الآلهة لهم كبير. كما نقول إن “زيوس” هو كبير آلهة اليونان، و “جوبتر” هو كبير آلهة الرومان، و”رع” هو كبير آلهة المصريين…
والوثنية كانت تنتشر بالخلطة وبالتزاوج.
ولذلك كان الله في العهد القديم يمنع الخلطة بالأمم والتزاوج معهم، حتى لا يعبد الشعب آلهتهم. ولعل من أخطر الأمثلة في التاريخ لسوء الاختلاط بالأمميين، هو تزوج سليمان الحكيم بزوجات مواَبيات وعمونيات وصيدونيات.. (1 مل 11 : 1، 2). وهكذا “بني سليمان مرتفعة لكموش رجس المواَبيين علي الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بني عمون. وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن” (1 مل 11 : 7، 8).
لكل ذلك أرسل الله الأنبياء، ليثبتوا الشعب في عبادة الإله الحقيقي.
وزود هؤلاء الأنبياء بالوحي، وبالمعجزات. وكان سِفْر الشريعة يُقرأ علي الناس في المجامع كل سبت. كما كانت الأعياد والمراسم والذبائح تذكِّرهم ايضاً بعبادة الرب حتى لا يضلوا…
ومع كل ذلك نسمع عن وجود وثنية في أيام الآباء والأنبياء.
ومع كل ذلك نسمع أن راحيل زوجة أبي الآباء يعقوب، وابنة أخي رفقة التي تزوجها أبونا اسحق بن ابراهيم، علي الرغم من أنها من أسرة متدينة قيل عنها في مفارقتها لأبيها لابان “فسرقت راحيل أصنام أبيها” (تك 31 : 19).. و لما زحف لابان وراءهم، كان مما قاله ليعقوب: “لماذا سرقت آلهتي؟” (تك 31 : 30). ونسمع أن بني إسرائيل لما تأخر عليهم موسي النبي علي الجبل مع الله اجتمعوا علي هرون و قالوا له: “قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا” (خر 32: 1).
ونزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم، وصنعوا عجلاً مسبوكاً، وبنوا له مذبحاً، وأصعدوا محرقات وذبائح سلامة. وقالوا: “هذه اَلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر”. (خر 32 : 3 – 6)… فماذا تقول في ذلك، بعد كل المعجزات التي حدثت أمامهم وفعلها الرب علي يد موسي النبي.
أهو جهل؟ أم تأثير الأمم الوثنية؟ أم حروب الشيطان و ضلالاته؟ أم كل ذلك معاً؟..
ولا ننسي أن الروح القدس لم يكن يعمل في قلوب الناس كما في أيامنا.. كذلك لا ننسي أيضاً في تاريخ الوثنية أمراً آخر يضاف إلي أساطيرها المتوارثة هو:
تأثير الفلسفة الوثنية وأفكارها علي الناس.
وهؤلاء الفلاسفة كان تأثيرهم علي العالم الوثني لا يقل عن تأثير الأنبياء علي شعب الله. وكانوا هم الذين يشكلون عقائد الشعب. يضاف إلي هذا تأثير كهنة الوثنية ومعلميها وتأثير الأسرة علي أبنائها.
وأمر له خطورته في تاريخ الوثنية، هو سلطة الملوك الوثنيين.
وصدق ما قيل في المثل الشائع عن تلك العصور “الناس علي دين ملوكهم”. وقد شرحنا مثلاً كيف أن أخناتون نشر ديانة جديدة استمرت في أيامه. وسجل الكتاب كيف كان داريوس ملك فارس يصدر أوامره في ما يعبده الشعب، حتى أن دانيال لما لم يشترك في تلك العبادة أُلقي في جب الأسود (دا 6). وتاريخ الإستشهاد معروف كيف أن ديوقلديانوس مثلاً كان يقتل المسيحيين في وحشية إذا لم يعبدوا آلهته. ومن قبله نيرون في عصر الرسل وخلفائه طوال حوالي ثلاثة قرون…
2٬514